A9ALI ..[ رتبتي بالمنتدى ]..[ عُضُوْ مُطَوِّرْ ]
.::|| YEMEN-DOAN ||::. Windows 7 • مســاهمــــــــاتيے : 826 • نقـــــــــــــــــــاطيے : 6222 • سمعتــــــــــــــــــيے : 24 • عمــــــــــــــــــــريے : 34 14/10/2013
| موضوع: [ قصة قصيرة ] بعنوان [ الطوفان ] بقلم [ blidaxbillel ] الخميس يناير 30, 2014 2:08 pm | |
|
" ... كن رجلا , أختاك وصيتي عليك , أثق فيك كل الثقة , كن ..." و كانت آخر عباراته , مازالت تتردد في ذهني كل ثانية صمت أعيشها , أعيا كاهلي صوته الذي ما عدت أطيق الحمل الذي رمي علي , لكن ما فرطت في وصيته , أنا على العهد لحد الساعة , شقيقتاي تحت ظلي لكن أنا مرهوب من أن يأتي اليوم الذي يغيب فيه ظلي و تخترق أشعة الضوء هذا الحاجز المصنوع من لفافات الورق .
كانت بدايتي مع هذا الألم صعبة جدا , فلم استطع أن أوافق بين شخصية الأخ الأكبر و الوحيد و بين أن أكون أبا , بل ما صعب الأمور أن أكون الأم الحنون لهما و خاصة اتجاه أختي ياسمين , آسف فلم أقدم نفسي بعد , اسمي حسام ابلغ من العمر 19 سنة , لي أختين اصغر مني سنا , فرح 15 سنة , هي تدرس في المتوسطةتحلم أن تنتقل هذه السنة لكي تحضر للسنة النهائية و تنتقل إلى الثانوية , صحيح أنها صغيرة لكن طموحاتها اكبر , أحاول أن أوفر لها الجو الملائم لكي تنغمس في دراستها, فبالتعاون مع جمعية كافل اليتيم استطعت لحد ما أن احصل لها على المستلزمات الدراسية و إن قلت إلا أن هذه الإعانة فتحت لي متنفسا صغيرا يعبر منه النسيم إلى روحي , أما بالنسبة للأخت الصغرى فاسمها ياسمين , عمرها 4 سنوات , هيمرآة اسمها , هكذا كان يقول أبي , كلما انظر إليها أجد ملامح أمي مرتسمة على وجهها , و خاصة ابتسامتها , تحرك عينيها , هي الصورة الحية الوحيدة المتبقية من رفات أمي , ضميري يؤنبني حين أرى نفسي عاجزا عن توفير شيء لها , فحين تكون فرح في المدرسة , أكون أنا في السوق انتظر بمطرقتي من فرج حذاءه أحسنه له , فهي الحرفة الوحيدة لي التي ورثتها عن والدي و مصدر الرزق الوحيد الذي اقتات منه أنا و أختي , فهذا الفراغ الذي نشأ في حياتنا صعب من مهمة الاعتناء بياسمين , فانا لا استطيع أن أبقى معها في المنزل , لا أنا و لا أختي إكرام , فصارت ياسمين تترامى بين بيوت الغير و هذا ما يحطم فؤادي .
لم اعتبر هذا الواقع مشكلا على الإطلاق , فقد كنت اترك ياسمين في بيت خالتي , إلا أن حالتنا قد حطمت سلاسل ربطتنا مع غيرنا و حللت الانصهار الذي يجمعنا و إياهم و تركت لنا أوهاما ما استطعنا أن نكذب و جودها و لا استطعنا التمسك بها , فهذه هي طبيعة السراب ,تداخل الحقيقة مع الخيال , فمن تصدق و من تكذب , فقد سقطت كل المعايير و تغيرت كل الرؤى , سماءنا الصافية اجتاحتها الغيوم فما بقي لنا إلا انتظار الغيث من السماء , هيكلة معقدة المفهوم للفكر الإنساني , لا تحتوي على معادلات أو قوانين منتظمة , لا توجد إلا الفوضى , الكثير من الفوضى , زوبعة من غبار الحياة قد تعمي عينيك عن حقيقة هي في الأصل السراج الوحيد الذي إذا أنار صار البرد نار و اللهب ما هو إلا تعال و افتخار , لعلني قلت بعض الأمور المبهمة إلا أنني مجرد معلق عن كتابات قدري في صحيفة طبعت في فكري , فلو أنت جلست يوما في موضعي , حملت مطرقتي , تعاملت بمساميري , تآكلت يداك و تشعبت فيها هموم الحياة مثلي , لو انك حملت ما احمله في صدري و نسخت عيناك ما يراه بصري لعذرت ما يقال عني , فالكثير ممن يعرفني بل و حتى من تجري في عروقهم تفاصيل دمي , يرون أنني شخص متلهف على الدنيا , يعتقدون أن الطمع يسكن وجداني , يظنون أنني عبد دينار و كل ما يهمنيهو صوت تضارب الفكة في جيبي , حاولت مرارا أن أدافع عن نفسي لكن كيف اسمع من به صم و صوتي قد بح من المناجاة , قيل لي احد المرات كيف لك أن تبقى لحد إغلاق السوق في ساعة متأخرة من المساء مع أن العامة قد رحلوا و لم يبقى سوى الباعة في محلاتهم الشبه مغلقة يوضبونأغراضهم استعدادا للعودة إلى المنزل ,اتهمت بأنني عميل للحكومة , اتهمت بأنني سارق ينتظر فرصته لينقض على القطيع , اتهمت بأبشع الأوصاف , لكن خجلي من الرد عليهم يقتلني , الحقيقة أن عمل الاسكافي يدر ربحا ضئيلا جدا , كنت أبقى لساعة متأخرة من المساء منتظرا أن كان تعرض احد الباعة إلى شرخ في حذائه فأصلحه و بهذا أكون قد وفرت على الأقل مبلغا أقدم منه جزءا للحاجة عيشة التي تعتني بأختي ياسمين, كنت أخاف أن أقدم حجتي فترشقني نظرات الغير بسهام الشفقة , كنت أرى أن سيول عرقي الجارفة كفيلة ببقائي واقفا على قدمي , حرفتي هي مصدر عيشي , أنا لا احترف الشحاذة , أنا ابني رجولتي بحفظ أقدام غيري و حتى إن عابني من يراني فانا لا اهتم , فوالدي قدم إلي سلمايرتقي به كبريائي و أنا متمسك بدرجاته , محال أن اسقط .
التقيت بالحاجة عيشة لأول مرة في السوق , هي تبعدني كل البعد , و اعني بذلك كل صلة قرابة أو جورة أو حتى صداقة بينها و بين عائلتنا , كانت عجوزا طاعنة في السن إلا أن الحياة و وقسوتها علمتها أن تبقي نفسها متيقظة من غدر الزمن بها , فهي معتمدة كل الاعتماد على نفسها , كانت تمر علي يوميا في السوق , كنت ألحظها متعجبا , كيف لها أن تبقى في حراك و قد دق هذا الجسد دقا , علامات الفقر تلمع من جبينها المتعرق , مشقة الحياة أعطت لنفسها صوتا كأنه تعويذة تنشد للموت أهات تدله بها إليها , كما قلت سابقا فان لي خالة كانت تعتني بأختي ياسمين منذ مدة وجيزة إلا أنها صارت ترفض حتى أن أقف أمام عتبت بيتها , بل هو اكبر من أن يكون بيتا , أتذكر جيدا اليوم الذي ذهبت فيه لأخذ أختي بعد نهاية عملي , و جدتها تنتظر عند باب منزلها , ما أن قرعته حتى فتحت و الشواظ تتطاير من عينها , قدمت إلي ياسمين ورمتها بين أحضاني كالذي يحمل في يديه جمرا , و قد لفتها في إزار , قالت لي بنبرة يفهم منها أنني يجب أن أنسى أن هناك شيئا اسمه خالتي نورة , كان وجهها منتفخا محمرا حتى ظننت أن كل الدم الذي يضخه قلبها يصب في وجهها , قالت " اسمع حسام و لن اردد كلامي هذا مرة أخرى , هذا إن كانت هنالك مرة أخرى , من يريد أن يحصل ماله فليذهب بعيدا , فنورة ليست مربية أطفال تعمل على المجان , و هي لم تفتح دارا للأيتام بعد حتى تقرع أنت الباب علي كل مساء و تأتيني بمظهر المسكين , لقد سمعت جيدا ما الذي تقوم به , أتحسب أنني لا ادري ما الذي تفعله , طبعا اسكافي هذا ما تريدني أن أصدقه , أنا لست حمقاء , أخذت أختك ؟ انطلق بها و لا تعد إلى هنا فالناس ترى و تسمع لا أريد أن أتلوث بما ليس لي به دخل " و أغلق الباب , لم أتفوه و لا بكلمة فقد جمد كل شيء في جسدي حتى أنني تمنيت أن تبتلعني الأرض أو تأتيني الموت لتنقذني من هذا الجحيم الذي يجتاحني , إنها اقرب شخص بقي لي في هذه الدنيا كيف لها أن تقول عني هذا الكلام , أنا لم أحاسبها يوما عنا فهي ميسورة الحال لكن لم ترمي و لا خطوة اتجاهنا , لقد ناجيتها أن تقوم برعاية أختي , لم أطالبها بغير ذلك , لما هذه المعاملة أنا ابن أختها , لما هي تتعمد إلى إسقاط ماء وجهي بهذه الطريقة , أليس من المفروض أن تقف إلى جنبي في محنتي , أليس من المفروض أن تضمني إلى صدرها فقد غاب الصدر الذي أرضعني الحنان , هل يبدو علي أنني لا املك قلبا , هل أصلي من الصخر لكي تسلبوني الأحاسيس , حرام عليكم فانا بشر مثلكم , أم تعاتبونني كما عاقبني قدري , أنا إنسان , أنا ابن آدم , أنا و قلبي منكم ارحمونا.
حملت أختي ياسمين عائدا بها إلى البيت و الدمع يسيل من على وجنتي , تارة أقف حاملا راسي إلى السماء مناجيا من هو ملك لهاته السموات , و تارة أخرى أقوم بضم أختي النائمة ماسحا دمعي بإزارها في طمع أن أنال ريحا عليلا منها يذكرني بأمي , يذكرني بتلك الأيام الجميلة , لكن للأسف فقد انتقلت النار إلى ابعد مكان في قلبي فلم أجد ما يمكن إنقاذه , فقد خرب كل شيء , تحطمت أمالي , زهقت روحي و تركت لتتخبط في هذا الجسد الذي كل و مل من عتاب الناس له , لم أجد و لا وسيلة اعزي بها نفسي , فليس هناك أم تمسح الدمع عن خدي , ليس هناك أب يربت على كتفي , ليس هناك إلا الفراغ , تعبت من السير في هاته الطريق الطويلة , طريقي بدايتها صاخبة لا تحمل لافتات , تسير و الطوفان يشق طريقه إليك فيجعلك تلتفت يمينا و شمالا منتظرا متى يضرب ضربته الأخيرة , هناك شوق إليه ليريحك من عذابك و ينتابك هاجس انه سيكون العائق بينك و بين إكمال الرسالة التي قدمت إليك, أين المفر .
دخلت البيت , وضعت ياسمين في فراشها , و هممت بتحضير العشاء , كان الدمع ينهمر من عيني في تدفق حار حتى أنني اعتقدت انه لن يتوقف أبدا , مهما حاولت وصف تلك اللحظات سأفشل بالتأكيد , كل تلك التدفقات الشعورية في صدري لم تجد و لا حتى أذنا تنساب إليها لعل و عسى أن ارتاح قليلا , عادت أختي فرح من بيت جيراننا حاملة معها أدواتها , فهي ترتاح مع ابنتهم في منزلهم بعد الدراسة و هذا عبء قد حمل عني من جيراننا لهم كل الشكر عليه , ما إن دخلت و وجدتني في حالتي تلك حتى صرخت " خويا حسام... " , رمت بأدواتها على الأرض و انطلقت مسرعة اتجاهي , حاولت إخفاء دموعي , لكن الأوان قد فات , ارتمت في حضني و هي تبكي , كانت تمسح الدموع عن عيني و هي تبكي و تردد " ما الذي حصل , لا تبكي أخي حسام , أنا هنا , أرجوك لا تبكي أنا هنا معك , ... "ثم تعاود عناقي بحرقة حتى أصبحت كالطفل الصغير و انطلقت شهقات بكائي و تمسكت بها حاضنا إياها مخفي وجهي عنها , هي مبكاي الوحيد , ذكرتني بأمي هذا ما زاد من ألمي , صرت أنوح و اردد " أمي , لما رحلتي , اشتقت إليك , أين أنت ...... أبي , لما تركتني وحيدا ... " تلك لحظة ضعف لم احسب أني ملاقيها يوما .
لم نحضر العشاء لتلك الليلة , فقد انتقلنا مباشرة إلى النوم بعد ذلك المنعرجالحاد من حياتي , استيقظت باكرا , قمت بتحضير الفطور لفرح ثم توجهت إلى المدرسة كأن لم يحصل شيئا بالأمس , فقد استرجعت عافيتي و لم أشأ أن تنجذب أختي لهاته الدوامة , فوقت البكاء غير مدرج في أجندة حياتي , قمت بتحضير ياسمين لأخذها معي للعمل , حملتها معي و انطلقت في همة , أملي في النجاح متشبث في أختي لا غير , فهما السبب الرئيسي الذي أحيا لأجله , بل هما الحياة بعينها في نظري . وصلت إلى مجلسي في السوق , وضعت زربية طرحت فيها أختي الصغيرة , جلست بجانبها , في الحقيقة انجذبت نحوها لكي ألامسها بفخذي , لأتيقن بأنها أمامي كل الوقت , حتى إن غاب نظري عنها كانت أحاسيسي حارسة لها ,جاءني أول زبون في ذلك اليوم , و هو تاجر يبيع الخضر غير بعيد عني و قد رافقه احدهم ليجالسه ريثما انهي له حذاءه , خلع حذاءه , أخذته منه فوجدت انه بحالة جيدة , لكنه أصر على أن أعيد تسميره من جديد , فشرعت في العمل عليه , و بينما أنا اعمل عليه , إذا به يطارحني بكلامه " كم يستطيع طفل مثل الذي معك أن يدر عليك من مال , الأموال تذهب لكن قل لي ألا تخاف من مولاك و تستغل أطفالا لا حول لهم و لا قوة في كسب غير مشروع ... " و قبل أن يكمل كلامه كنت قد اكتفيت من نفثه و اشتدت قبضتي على المطرقة, توقفت عن الطرق أجبته " لا تزد عن كلامك و لا حرفا , هذه أختي الصغيرة , و أنا لا اشحذ ,احتفظ بكلامك لغيري , أنت حر فيما تظن لكن إياك أن تنظر إلى أختي نظرة أخرى , فنظرك مهدد أن يلاقي ويلات مطرقتي " قدمت له الحذاء, ارتداه في عجلة و هم بتقديم المال لي , نظرة إليه في تهكم و قلت " أتعيبني بالشحذ ثم ها أنت تعينني عليه , ما أقبحكم بشر , تذمون غيركم و تنسون أنفسكم , الرزق من عند الله , مالك أنا في غنى عنه , أعانك الله في رزقك " ورحل .
استيقظت ياسمين , حاولت تجاهلها , فقد كانت ترتمي لتجلس عندي لكنني كنت أعاكسها و آمرها بالجلوس في مكانها , لقد خفت أن تجلس عندي فيراني الناس فيحسبون أنني اشحذ بها , كنت اعمل و بالي كله معها , أصابتني بعض من الهستيريا , فلم أرد أن يحصل أي مكروه لها فضميري لن يتحمل أكثر مما يحصل لي الآن , اعلم يقينا أنني سوف افقد إدراكي إذا ما حصل أي شيء لأختي . تقدمت نحوي المرأة العجوز مترنحة في خطاها ألقت علي السلام و جلست على الكرسي , " السلام عليكم بني .... هل من وقت لكم لسيدة عجوز سئم منها نعلها .." ابتسمت و أشرت براسي كترحيب بها , أخذت أعاينه و هي تتكلم عن أحوال الدنيا في ومضات طريفة أحسست منها أنها إما تعزيني أو هي تجادل دنياها ضاحكة عنها عما تقاسيه انه لا يرقى إلى مستوى صبرها و أن الدنيا و رغم غرورها و رغم كل المصائب التي تدفعها نحوها لم تزعزعها حتى , انتبهت إلى ياسمين " سلام على الجمال , الله يبارك في خلقته هذه , تعالي عندي , تعالي لجدتك ... " أخذت تقبلها و تداعبها , تسائلها عن اسمها , لم اشعر بأي تهديد اتجاهها , كنت ابتسم لمحاورتها لها , كانت ياسمين تبحث في ثنايا وجهها و المرأة العجوز تضاحكها و تلاعب جسدها البريء , " يا عمري على هذا الزين , هل هي أختك ؟؟ " قلت " نعم هي كذلك " , قالت " و لما هي ليست في البيت ؟ إن السوق ليس بالمكان المناسب لتواجد أطفال بمثل عمرها , كيف سمحت لك أمك باصطحابها معك , أتعجب إلى ما آلت إليه حال الأمهات هذه الأيام , فنحن كنا نقو,,,," فقاطعتها بكلام سريع " ليس لها أم أو أب , رحمهما الله , و أمها في تلك الدار , و تيقني أنها إن كانت هنا لاختلفت عن نسوة اليوم , لكن اليوم أنا أمها , أنا أبوها , لا تخافي عليها ما دمت هنا لن يضرها شيء و حتى إن اصطحبتها معي إلى السوق فهذا لن يعرضها لأي أذى ... " كانت تنظر إلي و قد طمست الابتسامة من وجهها فإذا بها تقاطعني " الله يرحمهم , صل على النبي بني , الدنيا مازلت على خير , أنا على يقين انك تقوم بكل واجبك نحوها , لكن رأيت أن من الأفضل أن لا تتواجد هنا , لما لم تتركها لدى احد الأقارب ... " كان التعجب باديا عليها , فبدأت استرسل في قص روايتي لها , كانت تستمع , تقاطع كلامي حينا بحمد الله على نعمه و أحيانا تستغفر الله على قساوة عباده , كانت مسايرة لقصتي و مهتمة كل الاهتمام بأشد تفاصيلها , تسألني تارة و تنصحني تارة أخرى , أحسست أنني وجدت الشخص الذي فهم همي , شعرت براحة و أنا اكلمها , كلمتها عن فرح , كلمتها عن والدي , عن سبب إحضاري لياسمين معي , تواصل الحديث قرابة الساعة من الزمن , كنت أماطل في العمل لكي اكسب بعض الوقت معها , شعوري اتجاهها بالطمأنينة انبت شيئا من الثقة اتجاهها , لما انتهيت من العمل قدمت لها الحذاء وكانت ياسمين قد نامت بين ذراعيها , وضعت ياسمين على الزربية ارتدت حذاءها و همت بالدفع لي , فقلت " اعذريني لكن لن استلم منك و لا دينار , آسف على الكلام الذي اضطررت إلى سماعه مني فهمك يكفيك و أنا زدت عليه ... " , " لا ..لا يا بني , لا تعد هذا الكلام مرة أخرى , أرجوك اجعلني في مقام أمك , في مقام جدتك , كما تشاء و لم يضرني كلامك في شيء , و إن احتجت إلى أي شيء فبيتي ليس بالبعيد عن هنا , اسأل عن الحاجة عيشة يأتون بك إلى حد البيت و مرحبا بك في أي وقت . الله يعينك بني , شكرا على كرمك معي " قبلت ياسمين و غادرت .
لما قارب اليوم على الانتهاء جاءني فتى في مثل سني , قال إن الحاجة عيشة أرسلته إليوهي تريدني في أمر مهم , جلس معي إلى حين انتهاء عملي , حملت ياسمين و أدواتي منطلقا معه إلى بيتها , لما وصلنا إلى الزقاق المؤدي إلى بيتها أشار إلى باب منزلها و غادر , كنت أتمشى نحو المنزل و أنا مرتبك الخطى , فقد كان ذلك الزقاق مظلما , خفت أن هناك كمينا قد دبر لي فاحترت بين العودة و إكمال مسيري , فقررت العودة , و ما إن استدرت حتى بصوتها يلاحقني " ... بني , من هنا , تعال , البيت هنا " استدرت عائدا لها , ألقيت السلام فردته لي , استفسرت عن احتياجها لمكالمتي " خير ما طلبتني فيه , اهو حذاؤك مرة أخرى ؟ سوف أصلحه لك حينا يا خالة ... " فنفت ذلك قطعا " لا ... لا ... ليس الحذاء و لا أمر العمل ما استدعيتك لأجله , بارك الله فيك على عملك المتقن "فتعجبت لما هي إذا تريدني وقد قمت بعملي معها على أكمل وجه , قالت " في الحقيقة أمرك همني , و أنا سيدة عجوز أعيش لوحدي , فبصرت أن أعينك في أختك الصغيرة , ينفك عنك بعض الذي أنت فيه و أجدها أنيسة لي ... " فقاطعتها " أطال في عمرك يا حاجة , لكن أنت لست مضطرة لمساعدتي , فانا معتاد على هذا الأمر ... " , قالت" انظر , أنا لا أحاول أن أكون مشفقة عنك , و أنت لا بمحتاج الشفقة , اعلم جيدا ما يدور في ذهنك , الوقت متأخر و البرد قارص في الخارج , خذ أختك معك إلى البيت و في الصباح عندما تتوجه إلى عملك قم بترك أختك عندي و أعدها معك في المساء , هذا إن كنت تريد الأفضل لها , و إن لم تأمني فهذا قرارك " فأجبتها " لا ليس هذا هو الإشكال يا حاجة ... لكن ... " , " لا بأس , خذ وقتك , و في الصباح اتخذ قرارك , " شكرتها على اقتراحها , سلمت على خدي و أمرتني بالاعتناء بأختي و عدت إلى المنزل , قضيت الليل كله أفكر في اقتراح الحاجة عيشة , كنت متخوفا أن يحصل شيء لياسمين , لكن طغت علي فكرة أن السوق ليس بالمكان الأمثل لتواجد فتاة صغيرة فيه , قبلت بالمخاطرة على أن تجالسها الحاجة عيشة في منزلها لكونها امرأة عجوز و لعل أن لها خبرة في التعامل مع الأطفال الصغار , فهي أنثى و هي أدرى بهاته الأشياء , فاعتناء جيراننا بأختي فرح يريحني و حبذا لو أجد من يعينني على ياسمين هكذا أتفرغ جيدا إلى عملي و بالي مرتاح عليهما .
ذهبت فرح إلى دراستها في اليوم الموالي , توجهت إلى بيت السيدة العجوز و معي بعض من الحاجيات التي تخص أختي الصغيرة , طرقت بابها ففتحت مستبشرة , قدمت لها ياسمين و رجوتها أن تهتم بها و أن لا تتركها لوحدها , بقيت مبتسمة و ردت " هاها هل تحاول تعليمي كيف اعتني بالأطفال , لا تخف بني , أرح نفسك من هذا الجانب , فأختك بين أيد أمينة , هيا انطلق نحو عملك و في المساء عد إلي’ أعانك الله .. " , الحقيقة , قد أراحني كلامها كثيرا , قبلت رأسها و غادرت , أحسست أن الحياة قد دبت في جسدي مجددا , كنت امشي و أتحسس الابتسامة التي رسمت على وجهي , ابتسامتي , في الواقع قد اشتقت إليها كثيرا لأنني ما عدت اذكر شعور الفرح , فقد كانت معظم ابتسامتي إما مصطنعة لا تعبر عن الفرح إطلاقا , إما هي إخفاء لأحزاني و إما هي عن طرافة واقع مرير , المهم في الأمر هكذا بدأت حكايتي مع الحاجة عيشة , هي مشوار يوم بين عنصرين جمعتهما الإنسانية في نقطة واحدة , انفجار مشاعر صادقة من أرواح نقية كبلت يدي مع حبل نجاة لما صدقت انه يرمى إلي أو انه حاملني لبر الأمان .
توالت الشهور , و أنا على هذه الحال , الحاجة عيشة تعينني في أختي ياسمين , جيراننا معهم أختي فرح , زالت بعض من الخيفة التي كانت تنتابني اتجاه أحوال أختاي و غيابي عنهما , كنت أرى ياسمين يوميا مرافقة للحاجة عيشة و هي تأتي لتشتري الخضر من السوق , كنت سعيدا لان الله بعث بعضا من الحنان لهاته البراءة حتى لا يعتريها أي فراغ داخلي , و بعد أن تعلمت فرح الخياطة من بيت جيراننا فهي تبني مستقبلا دراسيا و حرفيا قد يفيدها في حياتها المستقبلية , أصبحنا نوفر المزيد من المال , استيسرت حالتنا بشكل محسوس , أظن أنني أسير على الدرب الذي أرادني أبي أن أصل إليه , إذا ما خيبته , أتمنى أن تدوم الحال في استقرارها إلى حين أن استطيع توفير محل صغير أتعاون فيه أنا و أختي فرح بين الخياطة و تصليح الأحذية , يرتسم لي بعض من ملامح غد مشرق لكن لا ثقة موضوعة بين يدي الزمان فقد غدرني مرات و مرات , لقد سلمت أمري لله في ثقة انه لن يضيعني لا أنا و لا أختي , هذا كل رجائي , هذه قصتي , رغم سكوت بعض حروفها و تطاول مشاعرها و تعكر أفكارها إلا أنني تعلمت المشي فيها حاف القدمين , أشواكها ما عادت تضرني فهي قد ألفتني أيضا , صدقوني , الجمال الذي تحمله في طياتها يستحق كل قطرة دمع سقطت مني , يستحق كل معاناة أركعتني , تيقن انك أنت الفائز في النهاية .
السنين تمر و الأيام تمضي , الأحباب يظهرون , و الأصحاب يرحلون , هذا هو الإبداع بعينه , بتوالد الهموم تنشأ البسمات , طبيعة لا يمكن إنكارها أو الحياد عنها , نجري وراء الدنيا لكن هي و مسيرها عنوان للامحدودية , ندبر شؤوننا و التدبير غير نافع فما كتب لا يغير بقدرة ضعفنا , خلقنا ضعفاء و الوهن مصير محتم فينا , نجوب الدنيا بما فيها من حبيبات رملها و رياح كونها , نغوص في أعماق بحارها , نلاقي حلوها و مرها , نجمع مخلوقات أقطارها و إن عايناها لوجدنا أن التسيير سابق التخيير , كلنا تحت رحمة العليم القدير , نتجرد مما جبلنا عليه و نسعى لإظهار أن الاصطناع خير دليل على أن النجاة تكون بالتطهير , فهل يا ترى أعيننا و أفئدتنا تبصر الخير أكثر من علم الواحد الأحد الكبير الذي ما نحن إلا ملكه و هو بنا على كل شيء خبير .
- انتهت -
| |
|