الحمد لله رب العالمين , رب السموات والأرض وما بينهما رب العرش العظيم
اللهم صلي على سيدي وحبيبي وشفيعي محمد إبن عبدالله خاتم رسل الله صل الله عليه وسلم
أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
تبقى نظرتنا إلى كتاب الله تعالى ناقصة جزئيا.. حتى تشمل كافة جوانب حياتنا، وحتى يدخل توجيه القرآن في كل جزئية، وفي كل ميدان، وفي كل فن.
ذلك التوجيه الذي أعنيه هو توجيه هداية وتنوير، نعرف من خلاله حكم ذلك الفن, وموقفنا منه وأخلاقنا فيه وكيف نتعامل معه,ومن خلاله, ويرسم لنا قواعد عامة, وضوابط وكليات جامعة شاملة, وأسس هامة ومبادئ رفيعة عالية في ذلك الميدان.
ولك أن تتصور إلى أي المستويات سنرتفع، وأي درجة سنبلغ، إذا توقفنا عند كل خطوة هامة مصيرية في حياتنا، لا نتجاوزها حتى نستهدي بهدي القرآن،ونستضيء بنوره، ليس في معرفة الحكم فحسب –كما هو غاية مطلب الكثير منا – بل إلى تلمس أسرار أخرى في المقدار الذي يحل ويحرم علينا، وإلى توجيه نفسي، وإيحاء شعوري، و ما هو موقف الأفضلية؟، وما هو الأكمل والأرقى؟... لو فعلنا ذلك لبلغنا في العبودية ومراتب الكمال والتوفيق شأوا عاليا..
وتمثيلا لذلك وتوضيحا له سأقف مع قصة "ذي القرنين "محاولاً استخراج تلك المقاصد، ومتلمسا أسرار القصة وأبعادها, وتوجيهاتها فيما يخص الجانب الأكاديمي للمتخصصين في العلوم التجريبية كالطب والهندسة والبرمجة والمحاسبة ونحوها، ولعل القاسم المشترك فيما بينهما، أن كلاً منهما يسعى في إعمار الأرض ويتسابق في إصلاحها وبنائها, ويتنافس في توجيه دفتها وقيادتها بشكل أو بآخر..
فيا ترى! هل يجب علينا إعمار الأرض ؟ ومن سيتولى ذلك ؟ وكيف يعمرها ؟ وبم يعمرها ؟وما هي عوامل النجاح في إعمارها ؟ وما هي أخلاق أولئك ؟ وبأي لغة يتحدثون ؟ بل كيف يجب أن تكون نفسياتهم ومشاعرهم, تجاه ربهم أولا، ثم تجاه مجتمعاتهم ومن هم دونهم ؟...
أسئلة واردة سأسعى للوصول إلى إجابات موجزة عليها من خلال القصة أضعها بين يدي طالب العلوم التجريبية عله أن يستضيء بها أو يجد فيها هدى...
قبل ذلك كله، لا أظنه يخفى على متعلم أن قصص القرآن تعتبر صورة حية مرئية يراد منها أن ترتسم في الخيال وتنطبع في النفس، وأن تبقى مثالاً حياً فاعلاً في حياة من اتخذها مثالاً أعلى، ولا شك أن ذي القرنين محل ثناء من الله تعالى، جعله الله مثالاً وأنموذجاً لنا بكل تفاصيل قصته التي أوردها في كتابه.. وإلا لنبّه على أخطائه وعلق عليها ونقدها, ولو بإشارة أو إيحاءٍ كما هي عادة القرآن.
قال القاسمي رحمه الله :"ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار،وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآدابتجلت في سياق تلك الوقائع, ولذا يجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات، وما يستنبط من تلك الآيات.."
الوقفة الأولى:
طموح يناطح السحاب... يحقق التمكين سعى ذو القرنين حتى بلغ حيث انتهت طاقته و قدرته، ولم يرض بمنزلةٍ دون منزلة أحد من أهل زمانه حتى في مناصب الدنيا، ولم يقف عند حد، بل سعى في الأرض حتى بلغ مغرب الشمس ثم سار بجيوشه حتى بلغ مشرقها ثم أتبع سببا حتى بلغ بين السدين، وتملك تلك المناطق كلها حتى حكم فيها وأثر بفكره ومبادئه على أهلها وسيطر عليها وغدا شرطياً أعلى للعالم وحارساً لأهل الأرض، وملجأ للمظلومين، ومأمنا للخائفين... عندها طابت نفسه وتحقق حلمه... همة متفجرة وطموح يناطح السحاب...
بهذا يبني ذو القرنين في نفس طالب العلوم التجريبية طموحاً عالياً وهمةً شامخة، ويرسم له صورة مشرقة في سماء التفوق والجد والعزم...والتنافس والتصارع من أجل السيادة والغلبة والوصول إلى مفاصل التغيير والتأثير وهي صورة المؤمن القوي...
ويحطم في المقابل صور الهزيمة والخمول والكسل...التي تعشعش في نفوس كتير ممن ضعفت همتهم وخارت عزائمهم...
قال القاسمي رحمه الله :"ومن فوائد نبأ ذي القرنين : تنشيط الهمم لرفع العوائق،وأنه ما تيسرت الأسباب، فلا ينبغي أن يُعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر، عذراً في الخمول والرضا بالدون، بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته حلاوةَ عقباه من الراحة والهناء، كما قضى الاسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار، إذ لم يكنمن الذين تُقعدهم المصاعب عن نيل مايبتغون"
في حين أنا نلحظ زهداً واضحاً من أبناء أمتنا في العلوم التجريبية، وتكاسلا وضعفا, بل يُتهم عالي الهمة فيها بأنه يلهث وراء الدنيا وأنه باع آخرته بدنياه، وبهذا رضينا لأنفسنا الهوان وذلت أمتنا حين مدت يدها إلى عدوها لتأكل وتشرب وتعيش، وازدادت مع بُعدها عن دينها وكتاب ربها ظلمة على ظلمة، وتأخر بهذا قطار أمتنا وتجاهَلَنا العالم وغَدونا لا نُهاب ولايُعبأ بنا...
ولو علت همة شباب أمتنا وسمت طموحاتهم، وارتقت آمالهم وأهدافهم، ووُجهت توجيهاً صائباً، وشاعت وعمّت ثقافة الطموح, والتفوق والاجتهاد، وتنافسوا على المراتب العليا في مجالاتهم وتخصصاتهم، ولم يرضوا بالدون وبالصفوف المتأخرة... لرفعنا عن أمتنا شيئا من الغمة، واستعدنا لها شيئا من كرامتها وهيبتها، وأعدنا لها مكانتها وريادتها، وتلك بلا شك أداة جهاد أخرى نجاهد بها عدونا لنقيم من خلالها دين الله في الأرض.
قال محمد إسماعيل المقدَّم : "وإذا كان آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها, فإن أعظم ما أصلح سلفنا البرار جمعهم القوة العلمية، والقوة العملية التي هي نشدان الكمال الممكن في العلم والعمل، واستصغار ما دون النهاية من معالي الأمور "
وقال ابن القيم : "كمال الإنسان بهمَّة تُرقِّيه، وعلم يبصِّره ويهديه ".
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام.
الوقفة الثانية:
موهبة وملَكة... مع قدرة وإرادة قال الله تعالى: "إنا مكنا له في الأرض" أي: بالقوة والتمكين والتدبير والسعة في المال، والاستظهار بالعدد وعِظَم الصّيت، وكبر الشهرة، "وآتيناه من كل شيء سببا" أي طريقا موصلاً إليه... من علم أو قدرة أو آلة.
مكَّن الله لذي القرنين في الأرض ويسَّر له السبل، وأعطاه من الأسباب فيشخصه وعقله وأخلاقه وفي جيشه وقوته وماله، ما جعله أهلا للوصول إلى ما وصل إليه، من الملك والتمكين والحكم.
والموهبة مفهوم يحمل معنى امتلاك الفرد لميزة ما، ويُقصد بها استعداد طبيعيي أو طاقة فطرية كامنة غير عادية في مجال أو أكثر من مجالات الاستعداد الإنساني التي تحظى بالتقدير الاجتماعي في مكان وزمانمعين ويستدل على تلك الاستعدادات من تحليل التعليقات اللفظية، وعن طريق ملاحظة النشاط التخيّلي والحركي للمرء.
والموهبة هي الركن الرئيسي في البنية الإبداعية.. وبدونها يتعرض البنيان للتفتت والانهيار.. و هي التي تجر الإنسان إلى دراسة فن ما، وليست الدراسة هي التي تصنع الموهبة..
ومن هنا نلفت النظر إلى أهمية نظر طالب العلوم التجريبية في نفسه وقدراته وما يمتلك من أسباب وفرص عند اختيار تخصص هو مجاله، فلا يطالب نفسه بما لا يقدر عليه، ومالم يُمكَّن له فيه، وما ليس هو له أهل من جهة, ولا يتهرب مما هو في مقدوره وما أوتي فيه سبب، ولا يتكاسل عن أداء واجبه وما هو مناط به من جهة أخرى.
قال القاسمي : ومن فوائد القصة :"الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض, ورزقه من يشاء بغير حساب ملكا ومالا،لما له من خفي الحكم وباهر القدرة، فلا إلهسواه "على هذا، فليس لتخصص فضلٌ على تخصص مطلقا – كما هي ثقافة شائعة – بل إن الأمر نسبي، فما يُفضل لشخص ربما لا يُناسب شخصا آخر.. وهكذا رفع الله الناس بعضهم فوق بعض درجات في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ، والمناظر والأشكال و الألوان، وقسم التخصصات بين خلقه ويسر لكل طريقاً خُلق له، والأذواق تتعدد والمواهب شتى،والناس معادن...
وليس امتلاكُ الموهبةِ ووجودُ الرغبةِ وحده كاف في تحديد التخصص، إذ لابد أن يضاف له توفر القدرة العقلية والنفسية والمادية لمواصلة التعلّم، وعند اجتماعهما معاً يُرجى لطالب العلم تسديداً وتفوقاً، ولعلّ الفشل والضعف الذي يُلحظ في واقع الكثير إنما مرده إلى عدم اختيار التخصص المناسب، وذلك يحتاج إلى بحث دقيق، ودراسة متأنية، وتصور واقعي للتخصصات المتاحة من جهة، ولواقع الشخص المقبل على اختيار تخصص ما،من جهة أخرى.
الوقفة الثالثة:
اجتهادٌ وبذلٌ للسبب... بلا كسلٍ أو تواكل قال الله تعالى عن ذي القرنين مرة :"فأتبع سببا" أي : فأتبع سبباً, سبباً آخر أو: فأتبع أمره سبباً، ثم قال عنه مرتين: " ثم أتبع سببا".
مكن الله لذي القرنين وآتاه من كل شيء سبباً, مع ذلك كله لم يكتف بهذا في تحقيق هدفه والوصول إلى مبتغاه -وأنى له أو لغيره أن يصل بهذا وحده - بل أتبع هذا بسبب يبلغه ذلك، ويحقق له أمله, فبذل جهداً عظيما وجيَّش جنده وعدته وعتاده وما يمتلك من مال وقوة، ليواصل مسيرته وجهاده، ذلك لأنه أدرك حقيقة اتضحت لنا من خلال سيرته أنه لابد من بذل الأسباب و الاجتهاد والنصَب ليصل المرء إلى مراده.
قال الرازي عند قوله تعالى " وشاورهم في الأمر, فإذا عزمت فتوكل على الله ": " دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يُهمل الإنساننفسه، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل، بل التوكل أن يراعي المرء الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق " إن الله يحب المتوكلين ".
بهذا يرتسم لنا منهجٌ واضحٌ لنيل المعالي، وهو أننا وإن كنا صالحين في أنفسنا، وإن كنا عباد الله وجنده، وإن كان منهجنا وديننا هو المنهج الحق، فإن هذا لن يمنحنا بمفرده تفوقا وبلوغا لما نصبوا إليه حتى يضاف إليه بذل للسبب الكوني المحسوس واجتهاد في تحصيل ذلك الأمر، وهي سنة ماضية مطردة لا تجامل أحداً ولا تحابي فرداً "سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلاً".
قال القاسمي رحمه الله : " ومن فوائد القصة : الإشارة إلى القيام بالأسباب، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل، وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر..."
وبالأخذ بهذه الأسباب الكونية على تمامها مع اقترانها بالأسباب الشرعية، يتحقق للمرء ما يريده وينال خيري الدنيا والآخرة، ويُوفق ويُسدد في طريقه "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"، وأما من قصَّر في أحد هذين الأمرين أوكليهما، فإما أن يفشَل ويُخفق في طريقه ولا يتحقق هدفه، وإما أن يُستدرج بتحقيق مراده، وربه ساخط عليه وهو يظن أنه موفق مسدد، عياذاً بالله تعالى...
يُضاف إلى هذا وذاك، أنه متى ما بذل السالك أقصى ما في يده من سبب، حتى استنفد جميعَ ما يملكُ من وسائلَ وأدواتٍ لبلوغ ما يراه خدمة لأمته ودينه بعد مشورة واستخارة وإعادة نظر وتفحص, ومع هذا لم يصل إلى ما يصبو إليه وانقطعت به السبل... عندها !
وعندها فقط.. يتنَزَّل عليه فرجُ الله، وفتحه وتوفيقه، ويكون أهلاً للمعونة والتسديد، ومحلا للإكرام و التصويب من حيث لا يحتسب... ولو حيل بينه وبين تحقيق مشروعه وهدفه فإنه يرضى ويسلم وأجره على ربه والخير عندها فيما اختاره له مولاه...
الوقفة الرابعة
وماذا بعد الانتصار والوصول والتفوق؟
قال الله عن ذي القرنين :" قال أما من ظلم فسوف نعذبه..., وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا"
حكى الله لنا موقف ذو القرنين حين بلغ مغرب الشمس، ووجد عندها قوما، فبيّن أنه أقام فيهم دين الله وحاكمهم إلى شرعه، وهو بهذا يرسم لنا منهجاً واضحاً في الغاية من اجتهاده ومجاهدته حتى بَلَغ تلك المنازل الرفيعة في المُلك و الحُكم, فهل يا ترى! يمتلك شبابنا كذلك منهجاً واضحاً ورسالةً جليّة، وأخلاق فاضلة راقية، يبلغونها العالم من ورائهم إذا وصلوا في تخصصاتهم التجريبية إلى مراتب عالية وشهرة عالمية، كما فعل ذو القرنين...؟
يقول ابن تيمية: (فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا., وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم).
قال القاسمي : " ومن فوائد القصة: الاعتبار بتخليد جميل الثناء، وجليل الآثار، فإن من أنعم النظر فيما قص عنه في هذه الآيات الكريمة، يتضح له جليا حُسن سجاياه، وسمو مزاياه، من الشجاعة وعلو الهمة والعفة والعدل، ودأبه على توطيد الأمن وإثابة المحسنين، وتأديبه للظالمين, والإحسان إلى النوع البشري.."
إننا وإن كنا ندعي أننا نحمل همّاً لهذا الدين... فهل نمتلك برامج حقيقة في تأصيل تلك المشاريع في أنفسنا ؟ وهل خطونا خطوات حقيقية صادقة نحو ذلك أم أنها مجرد مشاعر وأماني نداعب بها أنفسنا ؟؟
إنه لمن المحتم على كل صاحب همٍّ في العمل لخدمة هذا الدين ورفع الغمة عنه، أن يخصص ساعات يبني فيها مشروعه الذي سينفع به أمته، وقد تتالت دعوات المصلحين تنادي بأهمية التخصص في فن شرعي بجانب التخصص الأكاديمي التجريبي، كلٌّ بحسب ميوله واهتماماته، في علوم القرآن، أو الحديث أو الفقه أو التاريخ، أو في جوانب العمل الخيري و الإغاثي وخدمة المجتمع، أو في جوانب السياسة الشرعية والعلاقات الدولية وغيرها...
إنه من يقرأ ستة كتب متخصصة في فن من الفنون، يُصبح أحد أفضل عشرةٍ في العالم فيذلك الفن، ولا أظن ذلك يصعب علينا, ومادام أنه ولا بد أننا سنطَّلع على شيء ما في غير تخصصنا، فلم لا تكون اطلاعاتنا موجهة ومتخصصة؟
وما أجمل اصطحاب تلك الموازنة التي نادى بها أحد المصلحين حين دعا إلى تقسيم المطالعات والاهتمامات إلى ثلاثة أقسام : خمسون بالمائة للتخصص الأكاديمي، وثلاثون بالمائة لتخصص شرعي مصاحب، وعشرون للإطلاع العام المتنوع في كافة أمور الحياة والأحداث والنوازل ونحوها, وهي تجربة جديرة بالمتابعة إن شئت فخذ بها...
يُذكر في هذا الصدد أنه يُؤلف في كل شهر في العالم ما يقارب خمسون ألف كتاب يستحق القراءة، فهل يا تُرى سنستطيع استيعاب ذلك كله ومتابعة كل جديد ؟ لا أظن أن ذلك ممكناً, وقد مضى عصر الموسوعيين الذي يُلمّون بكل العلوم والفنون، وكفانا سطحية وانتقائية بغيضة .
الوقفة الخامسة
عبودية وافتقار... مع نجاح وتفوق... لا يفترقان!
تكررت لفظةٌ واحدةٌ "خمسَ مرات" على لسان ذي القرنين في قصته التي جاءت في صفحة واحدة، لتعكس لنا شيئاً من نفسيّته وروحه، ولغته التي يتعامل بها وحقيقة واقعه، أَدخل تلك الكلمة في سياقات متنوعة، وقالها في مواطن مختلفة، ألا وهي كلمة"ربِّي"، "ربِّه" ليُشعر بعبوديته التامة لله تعالى وافتقاره إليه، وأنه هو وحده مربيه و المنعم عليه وهو الذي منحه تلك المنزلة الرفيعة, وبلغه إياها، وحينما حكم أهل المغرب أراد أن يوحي إليهم أنه مجرد عبد مطيع لأمر سيده، في موطن ربما أشعر بأنه هو المتصرف المطلق والحاكم الأعلى فقال :"ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا". ثم قالها في موطن عز وشرف حين ارتفعت الأعناق إليه طالبين إليه بناء السد فقال:"ما مكني فيه ربي خير"وبعد أن أتم مشروعه وأكمل بناء السد،والنفوس كلها ممتنةٌ له مسرورةٌ بخدمته ونجاح خطواته، أرجع الفضل كله في ذلك إلى الله تعالى وعدّه من شواهد رحمة الله تعالى, ليربط القلوب بالله تعالى "قال هذا رحمة من ربي " مستغلاً لحظات النجاح تلك في تعبيد الخلق لله تعالى، وتلك هي والله الغاية العليا لتفوقنا ونجاحنا وتصدرنا، إن كنانعي دورنا حقا...
قال القاسمي رحمه الله: " ومن فوائد القصة : الإعلام بالدور الأخرويّ, وانقضاء هذا الطور الأوليّ، لتبقى النفوس طامحة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمدي ولذا قال "فإذا جاء وعد ربي".
إننا بحاجة دائما لأن نتذكر أننا مهما بلغنا في العلم والمجد والعلو مبلغاً رفيعا، فإننا لا نخرج عن طور عبوديتنا لله تعالى والافتقار إليه، بل ما كان ذلك لنا إلا بتوفيق الله ومعونته ورحمته "هذا رحمةمن ربي "، وكلما زاد الموفق رفعة ونجاحا في مجاله وتخصصه.. ازدادت مِنّة الله عليه،فازداد انكساراً وذلةً لله تعالى وعبَّد النفوس معه لله تعالى، وهي علاقة مطردة متى ما اختلت خُشي على ذلك المرء أن يكون قد استُدرج عياذاً بالله.
قال ابن القيم رحمه الله:" من أخص خصائص العبودية : الافتقار المطلق لله تعالى فهو حقيقة العبودية ولبُّها ". وقال رحمه الله : "إن مقام العبودية هو بتكميل مقام الذل و الانقياد, و أكمل الخلق عبوديةً، أكملهم ذلاً لله وانقياداً وطاعة.."
إن النفوس المؤمنة متعطشةٌ لسماع كلمات العبودية والاعتراف بالفضل والمنة لله تعالى من كبار علماء الأرض وقياداتها، فقللي بربك متى ستقر عيوننا برؤية مشاهد العبودية، وسماع كلمات الافتقار والذلة من أولئك ؟؟ بل لِم لا نكون نحن أصحاب تلك المنازل حتى نشيع في العالم تلك الثقافة وتعود تلك اللهجة من جديد ؟!!
الوقفة السادسة:
إعمار للأرض وتأمين لأهلها... وبإتقان.. حين شَكي من بين السدين إلى ذي القرنين" قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض..." سارع إلى نجدتهم ومعونتهم، وكشف الغمة عنهم، وأسكن لوعتهم وأَمّنَهم، ولم يأخذ على ذلك عِوضا، وأقام السد وبناه بإتقان و دقة "فما اسطاعو أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ".
بهذا عبّر ذو القرنين عن أمر آخر سعى لأجله، وتحقق على يديه، ليعلمنا نحن أهل الإسلام وأصحاب الدين الحق أننا مسئولون عن تأمين أهل الأرض ودفع الشرور عنهم، وتحقيق السلام والأمن للبشرية جمعاء، وأنا نحن وليس غيرنا من يقود سفينة البشرية إلى بر الأمان والسعادة في الدنيا ثم في الآخرة.
فهل أمتنا اليوم من يقوم بهذا الدور حقا؟ وإلا, فهل تجهَّزَت واستعدَّت لتقوم بهذه المهمة المنوطة بها ؟ وهل أعدت رجالها لقيادة البشرية ؟ ولِأن يكونوا مفزعاً لأهل الأرض، وملجأ للخائف والمنكوب من المجتمعات، بديلاً لمجلس الأمن والأمم المتحدة وكافة مؤسسات الكفر.؟؟!
فضلاً عن هذا... فإننا مطالبون بأداء هذا كله ليس على أي وجه، إنما بصورة متقنة تامة تُرضي أهل الأرض عنا وتُقنعهم بنا، كما أتقن ذو القرنين مشروعه وأداه على أكمل وجه وأحسن صورة، لكن وللأسف تبقى ثقافة الإتقان والدقة بعيدة كل البعد عن واقع أمتنا على مستوى الفرد والمجتمع والمؤسسات، وذلك كله يحتاج إلى مراجعات جادة صادقة لتغدو بعدها ثقافة الإتقان عادةً وسجيةً في أفراد أمتنا، عندها نرجوا لأنفسنا أن نكون في المقدمة...
كانت هذه إشارات سريعة، وخواطر عابرة، أضعها منارات وعلامات على الطريق، يستضيء بها السائر ويحدو بها الحادي أرجو أن أكون قد وُفقت في عرضها وترتيبها، و أن لا أكون قد حمّلت القصة مالا تحتمل، وأستغفر الله من الزلل والخطأ, ومن اللافت للنظر أن هذه القصة ذُكرت في سورة الكهف، والتي استحب الشارع لنا أن نتلوها في كل يوم جمعة، ليرسخ هذا المثال في نفوسنا فنحذو حذوه، فيحسن بالتالي لهذه السورة تذكر هذه المعالم وغيرها...
أسأل الله أن ينفع بها... كما أسأله أن يفتح علينا من أسرار كتابه وكنوز كلامه، مانهتدي به إلى صراطه القويم، وأن يجعلنا ممن يقول ويسمع القول فيتبع أحسنه... وصلى الله على نبينا محمد وعلى آ له وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
عمر النشيواتي | 9/3/1430 هـ
أتمنى أن ينال إعجابك الموضوع يا ,,,ـ
لا تنساني يا من الدعاء بخير ,,, جزاك الله خيراً